سر العدسات: كيف يُغيّر البُعد البؤري نظرتنا إلى العالم؟

البعد البؤري ليس مجرد قيمة تقنية مكتوبة على العدسة، بل هو أداة لتغيير زاوية النظر وتشكيل إحساس مختلف بالمشهد. من العدسة الواسعة التي تكشف اتساع العالم، إلى العدسات المقربة التي تعزل التفاصيل وتمنح الصورة عمقًا دراميًا، يظل اختيار العدسة قرارًا فنيًا بامتياز.

في عالم الصورة، لا يُعتبر اختيار العدسة مسألة تقنية بحتة، بل هو قرار جمالي وسردي يحدد الطريقة التي نرى بها المشهد ونقدمه للآخرين. فالعدسة ليست مجرد زجاجة تنقل الضوء، بل هي أداة لإعادة تشكيل الواقع وصياغته وفق منظور محدّد. وإذا كانت العين البشرية هي مرجعنا الطبيعي للرؤية، فإن كل عدسة فوتوغرافية تُعيد كتابة هذا المرجع بطريقتها الخاصة. وهنا يكمن “سر العدسات”: القدرة على أن ترى العالم بعين مختلفة.

العدسة الواسعة 35mm: عين على الفضاء المفتوح

تُعرف عدسة 35mm بكونها “عدسة المشهد الكامل” (Wide-Angle Lens). فهي تسمح بالتقاط مساحة واسعة داخل الإطار، ما يجعلها مثالية لتصوير المناظر الطبيعية، الشوارع أو الفضاءات الداخلية الضيقة.
لكن هذه السعة البصرية لا تأتي من فراغ: فهي تُعيد توزيع النسب البصرية، حيث تبدو العناصر القريبة أكبر حجمًا بينما تتضاءل العناصر البعيدة.
من الناحية السيميولوجية، هذه العدسة تنتج خطابًا بصريًا قائمًا على الانفتاح، إذ توحي للمشاهد بالحرية والامتداد. وبذلك فهي أداة مثالية لرواية القصص التي تركز على المكان كفاعل أساسي في التكوين السردي.

العدسة الطبيعية 50mm: عين الإنسان

تُسمى عدسة 50mm بـ “عدسة العين البشرية”، لأنها الأقرب من حيث الزاوية والإحساس إلى الطريقة التي ترى بها العين العالم دون تشويه.
في هذا السياق، يمكن اعتبارها عدسة الواقعية البصرية (Optical Realism). فهي لا تفرض على المشهد أي مبالغة أو تحريف، بل تقدمه كما هو.
تُستخدم هذه العدسة بكثرة في البورتريه البسيط والتصوير اليومي، حيث يكون الهدف إبراز الطبيعية والألفة (Naturalness & Familiarity). ولهذا السبب، يُنظر إليها كعدسة مثالية لرواية القصص الإنسانية البسيطة، حيث لا يتدخل البعد التقني في تغيير معنى المشهد.

عدسة 85mm: السحر الخفي للبورتريه

حين ننتقل إلى عدسة 85mm، ندخل إلى عالم مختلف. هذه العدسة تُستخدم على نطاق واسع في تصوير البورتريه لأنها تُعيد صياغة العلاقة بين الموضوع والخلفية.
فمن الناحية التقنية، تمنح العدسة عمق مجال ضيق (Shallow Depth of Field)، مما يؤدي إلى عزل الموضوع (Subject Isolation) وجعل الخلفية خارج التركيز.
هذا العزل ليس مجرد أثر تقني، بل هو قرار سردي: إذ يتحول الإنسان إلى مركز الاهتمام المطلق، بينما يُختزل المحيط ليصبح مجرد خلفية صامتة.
لذلك، فإن هذه العدسة تُنتج خطابًا بصريًا عاطفيًا، يعكس القرب، الحميمية والتركيز على التفاصيل الإنسانية.

عدسة 120mm: نحو الهيمنة البصرية

كلما ازداد البُعد البؤري، كلما ابتعدنا عن الواقعية المباشرة ودخلنا في مجال التكثيف البصري.
عدسة 120mm أو ما يُعرف بـ Telephoto Lens تُستخدم لإبراز الموضوع بشكل قوي جدًا عبر عزل حاد للخلفية. النتيجة هي صورة تجعل المشاهد يرى ما يريد المصور فقط، دون تشويش.
هذه العدسة مثالية لتصوير البورتريه الاحترافي أو التقاط لحظات بعيدة دون الاقتراب فعليًا.
لكن الأهم هنا هو الدلالة الجمالية: هذه العدسة تجعل الموضوع يبدو أكبر من الحياة (Larger than Life)، إذ تفرض عليه هيمنة بصرية، كأنه الأيقونة المركزية في خطاب الصورة.

العدسة كأداة سردية

من خلال المقارنة بين هذه العدسات، نكتشف أن اختيار العدسة ليس مجرد قرار تقني مرتبط بالتصوير، بل هو قرار سردي/أيديولوجي يُعيد تشكيل المعنى.

  • عدسة 35mm تقول: “انظر إلى العالم في امتداده الواسع”.
  • عدسة 50mm تهمس: “هكذا ترى الأشياء في حقيقتها”.
  • عدسة 85mm تؤكد: “الإنسان هو مركز القصة”.
  • عدسة 120mm تصرخ: “الموضوع هو الأيقونة.. لا شيء غيره”.

بهذا المعنى، العدسة تُشبه قلم الكاتب أو ريشة الرسام: هي الأداة التي تُحدد نبرة السرد البصري.

البُعد النفسي لاختيار العدسة

تشير دراسات في مجال علم الإدراك البصري (Visual Cognition) إلى أن الزوايا والعدسات لا تترك تأثيرًا جماليًا فقط، بل تُحدث أثرًا نفسيًا مباشرًا على المتلقي.

  • العدسات الواسعة تولّد إحساسًا بالانفتاح والفضاء.
  • العدسات الطبيعية تُعزز الثقة والواقعية.
  • العدسات المقربة تبني خطابًا عاطفيًا/دراميًا.

من هنا نفهم أن العدسة ليست محايدة، بل هي أداة إقناع بصري (Visual Persuasion) تُغيّر استجابة المتلقي للمشهد.

العدسات بين التقنية والفن

إذا نظرنا إلى العدسات من زاوية تاريخية، نجد أنها كانت في البداية مجرد أدوات تقنية لخدمة التصوير الفوتوغرافي. لكن مع تطور فنون التصوير والإعلان والسينما، أصبحت العدسات تُعامل كأدوات جمالية وسيميولوجية.
فالمصور لم يعد يختار العدسة فقط بناءً على المسافة أو الإضاءة، بل بناءً على القصة التي يريد أن يحكيها. وهنا يظهر التداخل بين التقنية والفن: حيث تتحول العدسة من مجرد وسيلة إلى رمز جمالي يحمل رؤية محددة للعالم.

الخاتمة

في النهاية، يمكن القول إن سر العدسات يكمن في قدرتها على تغيير نظرتنا للواقع. فبين 35mm و120mm، تتراوح القصص البصرية بين الانفتاح، الواقعية، العاطفة، والهيمنة.
اختيار العدسة هو في جوهره اختيار للرؤية: أي شكل من أشكال العالم تريد أن تُظهره؟ وأي معنى ترغب أن تمنحه للمتلقي؟
العدسة ليست رقمًا محفورًا على قطعة زجاج، بل هي قرار سردي وجمالي يحدد لغة الصورة. ولهذا السبب، يُمكننا أن نؤكد أن العدسات ليست مجرد أدوات، بل هي “عيون بديلة” ترى العالم بطريقة لا تستطيع العين البشرية وحدها أن تراها.

مقالات ذات صلة

All comments are subject to our Community Guidelines. TheTrendRemix does not endorse the opinions and views shared by readers in our comment sections.

[DISPLAY_ULTIMATE_SOCIAL_ICONS]