يُعَدُّ الخطاب الدرامي أحد أبرز الوسائل الفنية التي تُتيح استقراء الواقع الاجتماعي والثقافي عبر توظيف السرد البصري والزمني بطرق إبداعية. وفي هذا الإطار، تأتي السلسلة التونسية “أريار لڤدام” كعمل تلفزيوني يُوظِّف تقنية السفر عبر الزمن ليس فقط كأداة سردية، وإنما كوسيلة لإعادة قراءة التحولات المجتمعية وتأثيراتها على الهوية الفردية والجماعية.
تستحضر السلسلة سياق التسعينيات من القرن الماضي عبر حبكة تقوم على الانتقال الزمني، ما يخلق فضاءً تفاعليًا بين الحاضر والماضي، مُتيحًا إعادة تقييم المفاهيم والقيم السائدة من منظور نقدي. ومن خلال مزيج متوازن من الكوميديا والدراما، تُعيد السلسلة صياغة العلاقة بين الأجيال، مُسلِّطةً الضوء على مدى استمرارية بعض الأنماط السلوكية وتحولات أخرى بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية.
السلسلة من إنتاج BETA Production للمنتجة سمية الحمراوي و من إخراج الفنان القدير بسام الحمراوي ، سنة 2025 .


السياق الدرامي:
تدور أحداث السلسلة حول صديقين يقرران التخييم في منطقة جبلية. يدخل أحدهما، حلمي (بسّام الحمراوي)، إلى مغارة تُعيده بالزمن إلى عام 1991. خلال هذه الرحلة الزمنية، يتفاعل حلمي مع شخصيات تمثل أفراد عائلته في شبابهم، مما يخلق مواقف كوميدية ودرامية تُبرز الفوارق والتشابهات بين الجيلين.

الإسقاطات وأوجه التشابه مع الأعمال العالمية:
تمتلك فكرة السفر عبر الزمن والعودة إلى الماضي تفسيرات ثقافية وفنية متعددة، وقد تم تناولها في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية العالمية. يمكن مقارنة “أريار لڤدام“ ببعض هذه الأعمال من حيث الأسلوب أو المضمون:
- Back to the Future (العودة إلى المستقبل) – 1985
- يُشبه المسار الدرامي لـ “أريار لڤدام“ إلى حد كبير سلسلة “Back to the Future“، حيث يجد البطل نفسه في الماضي ويتفاعل مع شخصيات مألوفة لكن في أعمار أصغر، ما يجعله يعيد التفكير في مفاهيم الزمن والهوية والعلاقات العائلية.
- في كلا العملين، هناك عنصر كوميدي ناتج عن صدمة الشخص القادم من المستقبل بسبب اختلاف القيم والتكنولوجيا بين الزمنين.
- Midnight in Paris (منتصف الليل في باريس) – 2011
- يشترك الفيلمان في فكرة الحنين إلى الماضي (nostalgia)، حيث يسافر البطل في “Midnight in Paris“ إلى العشرينيات من القرن الماضي، ويعيش تجربة تُعيد تعريف نظرته إلى الزمن والواقع.
- كما هو الحال في “أريار لڤدام“, يطرح الفيلم تساؤلات حول ما إذا كان الماضي حقًا أفضل من الحاضر، أم أن الإنسان يميل دائمًا إلى تمجيد الماضي بسبب عدم رضاه عن الواقع.
- Dark (دارك) – 2017
- رغم اختلاف النبرة والأسلوب، فإن “أريار لڤدام” و*”Dark”* يشتركان في توظيف فكرة السفر عبر الزمن ليس فقط كأداة سردية، بل أيضًا كوسيلة لإعادة التفكير في الروابط العائلية والتأثير المتبادل بين الأجيال.
- كما أن عنصر الغموض في اكتشاف الماضي ومحاولة فهم علاقات الشخصيات يخلق تشابهًا بين العملين، رغم أن “أريار لڤدام“ يعتمد على طابع كوميدي خفيف مقارنة بالجو السوداوي في “Dark“.
- Peggy Sue Got Married (بيجي سو تزوجت) – 1986
- في هذا الفيلم، تعود البطلة إلى فترة مراهقتها، فتتاح لها فرصة التفاعل مع عائلتها وأصدقائها بوعي شخص بالغ. هذا يشبه تجربة حلمي في “أريار لڤدام“, حيث يُتاح له النظر إلى الماضي من منظور الحاضر، مما يجعله يعيد تقييم حياته واختياراته.
- الفكرة الجوهرية في كلا العملين هي أن الماضي ليس كما نتخيله، وأن فهمنا له يتغير مع مرور الزمن.

الدلالات الرمزية في السلسلة:
اعتمدت “أريار لڤدام” على عدة رموز تعزز المعاني العميقة للعمل، ومنها:
- المغارة كرمز للانتقال الزمني والتأمل في الذات
- المغارة التي يدخلها حلمي ترمز إلى الغموض والاكتشاف، كما تعكس الجانب اللاواعي من العقل حيث يتم استرجاع الذكريات وإعادة تقييم الحياة.
- المرآة والتأمل الذاتي
- مشاهد حلمي وهو ينظر إلى المرآة تُبرز المواجهة مع الذات ومحاولة فهم التغيرات التي طرأت عليه وعلى المجتمع.
- الموسيقى كأداة لنقل الأحاسيس
- الأغاني القديمة تُستخدم لخلق إحساس بالنوستالجيا، بينما في مشاهد الحاضر تعكس الموسيقى السريعة حالة التوتر العصري.
قائمة الممثلين:
تألّف طاقم التمثيل من مجموعة من الوجوه البارزة في الدراما التونسية، وهم:
- بسّام الحمراوي في دور حلمي
- وجيهة الجندوبي
- لبنى السديري
- أميمة الحرموني
- محمد السويسي
- أحمد العجيمي
- جلال الدين السعدي
- هشام برقيس
- ياسين الصالحي
و أسماء فنية اخرى .






الاستقبال الجماهيري والنقدي:
منذ عرضها على منصة “يوتيوب” في النصف الثاني من شهر رمضان 2025، حققت السلسلة نجاحًا كبيرًا. أشاد النقاد بقدرتها على المزج بين الكوميديا والدراما، وتقديم محتوى يجمع بين الترفيه والتأمل في الماضي. كما لاقت استحسان الجمهور الذي تفاعل مع الشخصيات والأحداث، معتبرًا إياها انعكاسًا لذكرياتهم وتجاربهم الشخصية.

واخيرا يمكن أن نقول أن “أريار لڤدام“ تمثل نموذجًا تلفزيونيًا يجمع بين البُعدين الترفيهي والتأملي، حيث تُوظَّف مفاهيم السفر عبر الزمن والنوستالجيا لإنتاج خطاب درامي مُحمَّل بالرمزية والدلالات الثقافية. يُسهم العمل في إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد وزمنه عبر منظور مزدوج، يضع الحاضر في مواجهة الماضي، مما يدفع المشاهد إلى التساؤل حول طبيعة التغيرات المجتمعية ومدى تأثيرها على هويته الشخصية والجماعية. وبفضل توظيفه المتميز للعناصر البصرية والسينوغرافية، بالإضافة إلى استلهاماته الفنية من أعمال عالمية تُعالج مفهوم السفر الزمني، يرسِّخ المسلسل مكانته ضمن الدراما التونسية الحديثة كعمل يوازن بين الترفيه العفوي والطرح النقدي العميق.
